الجوانب الغيبية في حياة الزهراء (ع):
هناك من يقول: إنه لا حاجة لنا فيما يفيض فيه التاريخ في مسألة زواج الزهراء عليها السلام، والجوانب الغيبية في ذلك الزواج، فيما احتفلت به السماء، وغير ذلك مما يتعلق بهذا الأمر، كما أنه يتحفظ على الحديث الذي يقول بوجود عناصر غيبية أو خصوصيات غير عادية في شخصية الزهراء عليها السلام، وماذا ينفع أو يضر ـ على حد تعبيره ـ أن نعرف أو نجهل: أن الزهراء(ع) نور أو ليست بنور؟ فإن هذا علم لا ينفع من علمه ولا يضر من جهله.
ويضيف على هذا قوله: ولا نجد إن هناك خصوصية غير الظروف التي كفلت لها النمو الروحي والعقلي، والالتزام العملي، بالمستوى الذي تتوازن فيه عناصر الشخصية بشكل طبيعي في مسألة النمو الذاتي، ولا نستطيع إطلاق الحديث المسؤول القائل بوجود عناصر غيبية مميزة تخرجها عن مستوى المرأة العادي، لأن ذلك لا يخضع لأي إثبات قطعي.
ونقول:
إننا بالنسبة لضرورة الثقافة الغيبية نسجل ما يلي:
أولا: إن إثارة الأمور بهذه الطريقة، التي يخشى أن تسبب بإثارة صراع داخلي، من حيث أنها ترمي إلى التشكيك بضرورة الثقافة الدينية الغيبية وذلك غير مقبول ولا معقول، لأن ذلك من بديهيات الدين والعقيدة، ولا شك أن إبعاد جانب مهم جدا من قضايا الدين والإيمان عن دائرة الاهتمام، بطريقة التسويف أو التسخيف، أو التقليل من أهميته، يعتبر تقويضا لركن مهم من أركان الدين، وهو إرباك حقيقي للفكر الإسلامي الرائد، وهو يستبطن وضع علامات استفهام على الكثير من مفردات المعارف الدينية الأخرى، الأمر الذي سينتهي إلى أن يضعف إيمان الناس، وأن تنحسر معرفتهم بالله سبحانه وتعالى وبرسله وأصفيائه، ويتزعزع واقع اعتقادهم بحقائق الإسلام والإيمان، ويثير تساؤلات كثيرة حول أمور كان الأجدر أن لا يثار حولها جدل غير منهجي ولا علمي، حيث لا ينتج عن ذلك إلا إرباك الحالة العامة، وصرف إهتمامات الناس إلى اتجاهات بعيدة عن الواقعية، وعن التفكير الجدي في أمور مصيرية، تهدد مستقبلهم ووجودهم، وتبعدهم عن التخطيط والعمل لمواجهة الأخطار الجسام التي تنتظرهم في حلبة الصراع مع قوى الحقد والاستكبار، التي لا بد من تشابك الأيدي، وتضافر الجهود في مواجهتها.
عصمنا الله من الخطل والزلل في الفكر والقول والعمل إنه ولي قدير، وبالإجابة حري وجدير.
ثانيا:لا شك في أن النصوص التي تثبت عناية إلهية، ورعاية
غيبية للزهراء، بل كرامات ومعجزات(1)، وميزات لها، هي بدرجة من الكثرة تفقد الإقدام على إنكارها مبررة من الناحيتين العلمية والوجدانية.
وإذا كان هذا الحجم من النصوص لا يثبت ميزة وكرامة ورعاية غيبية، فلا مجال بعد لإثبات أية حقيقية إسلامية أخرى.
وقد سبقه المعتزلة إلى إنكار كرامات الأولياء، بحجة اشتباهها بمعجزات الأنبياء، فلا يعرف النبي من غير النبي (2).
ولم يلتفتوا إلى أن ظهور الكرامة إنما هو للولي الذي يلتزم خط الإيمان بصورة يمتنع معها من ادعائه النبوة، وإلا فإنه ليس بولي ولا يستحق كرامة الله، ولن يظهر الله له هذه الكرامة يوما.
ثالثا: قال الله سبحانه وتعالى: {ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون}(3).
ومما لا شك فيه أن للأمور الغيبية تأثيرا قويا على الحالة الإيمانية للإنسان المسلم، وأن الغيب هو من الأمور الأساسية في موضوع الإيمان، الذي يريده الله سبحانه من عباده.
____________
1- فقد ذكر أبو الصلاح الحلبي في الكافي: ص 102 و 103 أن المعجزات تظهر لغير الأنبياء أيضا، ولا يقتصر الأمر فيها على التحدي للأنبياء في نبوتهم ـ كما يحاول البعض أن يدعيه ـ وقد مثل لذلك أبو الصلاح بقصة آصف بن برخيا ومجيئه بعرش بلقيس قبل ارتداد الطرف. وما ظهر لمريم من معجزات كحصولها على الرزق ومعجزات تلاميذ عيسى، وغير ذلك. 2- شرح عقائد النسفي للتفتازاني: ص 177.
كما أن مما لا شك فيه أيضا: أنه لا يكفي في الإيمان بالغيب أن يكون مجرد إحساس مبهم وغامض بوجود غوامض ومبهمات في بعض جوانب الحياة، ثم شعور بالعجز عن نيل تلك الغوامض، ومن ثم شعور بالخوف والخشية منها.
ولا يكفي أيضا في تحقق الإيمان، بحد ذاته، وبكل حالاته ومفرداته، غيبية كانت أو غيرها مجرد الحصول على قناعات فكرية جافة، ومعادلات رياضية، تستقر في عقل ووعي الإنسان ليرسم على أساس ذلك خريطة سلوكية، أو حياتية منفصلة عن الغيب، أو غير منسجمة أو متناغمة معه، لا يكفي هذا ولا ذاك، فإن الإيمان فعل اختياري، يتجدد، ويستمر حيث إن الله سبحانه قال: {يؤمنون} ولم يقل آمنوا، ليفيد بالفعل المضارع التجدد، والاستمرار أي أنهم يختارون هذا الإيمان، ويحدثونه، ويوجدونه، ويجسدونه باستمرار.
وإذا كان من الواضح أيضا: أن الخشية من المجهول، والاحساس المبهم بالأمور الغائبة عن حواسنا ليس إيمانا، بل هو ينافي الإيمان الذي هو عقد القلب على أمر، واحتضانه له بعطف وحنان، ومحبة وتفهم، ثم سكون هذا القلب إلى ما يحتضنه، واطمئنانه إليه، ومعه، ورضاه به، {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} و {يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية}.
إذا كان الأمر كذلك:
وحيث لا يمكن احتضان الفراغ ولا السكون إليه، أو الرضا به فلا بد من توفر الدلالة القريبة على ذلك الغامض، والتجسيد له في وعي الإنسان، لكي يخرج عن حالته الغيبية في الواقع الايماني والشعوري، ويصبح شهودا إيمانيا، وإن كان في واقعه وكينونته لا
يلتقي مع الحس، ولا يظهر عليه، بل يبقى منفصلا وغائبا عنه.
ومن هنا: تبرز ضرورة ربط هذا الغيب بالواقع الموضوعي، ليصبح بذلك أشد تأثيرا في الوعي، وأكثر رسوخا وتجذرا في الإيمان، حيث تخرجه تلك المفردات المعبرة عنه والمشيرة إليه، عن أن يكون مجرد حالة غائمة وهائمة، ليصبح أكثر تركيزا وتحديدا إلى درجة التجسيد الحقيقي للمعنى الغيبي، الذي يهيئ للانسان أن يعقد قلبه عليه، ليكون ذلك المسلم المؤمن بالغيب، وفق ما يريده الله سبحانه، وعلى أساس الخطة الإلهية لتحقيق ذلك، وبذلك نستطيع أن نفهم بعمق مغزى قول علي عليه الصلاة والسلام: لو كشف لي الغطاء، ما ازددت يقينا(4).
وحين سئل عليه السلام عن أنه كيف يعبد ربا لم يره، أجاب: ما كنت لأعبد ربا لم أره، لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، وإنما رأته القلوب بحقائق الإيمان (5).
ولأجل ذلك:أيضا تطمئن القلوب بذكر الله سبحانه {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} فإن القلب لا ينال حقيقة الذات الإلهية نفسها، بل ينال آثارها وأفعالها ويطمئن بذكر الله سبحانه، وقد قال الله سبحانه: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}(6)، و {إقرأ بسم ربك الذي خلق}(7)، و {بسم الله الرحمن الرحيم}.
____________
4- البحار: ج 40 ص 153 و ج 46 ص 135. 5- البحار: ج 4 ص 27 و 32 و 33 و 44 و 52 و 54 و 304 و ج 10 ص 118 و ج 36 ص 406.
فيتضح من جميع ما تقدم: أن الإسلام حين ألزم بالإيمان بالغيب، فإنه لم يرده غيبا هائما، وخاويا ومبهما، بل أراده الغيب الهادف والواعي، الذي يتجسد على صفحة القلب والنفس، ويزيد وضوحا وتجذرا ورسوخا، من خلال الوسائل التي أراد الله سبحانه أن ينقل بواسطتها العنصر الغيبي إلى وعينا ليستقر فيه مقترنا بها، ومعتمدا عليها، ومستندا إليها.
فالثقافة الغيبية إذن، من شأنها أن تبعد الإيمان بالغيب، عن أن يكون حالة خوف من المجهول، ليكون الغيب شهودا قلبيا حقيقيا، يعقد عليه القلب، ويتقوم به الإيمان، وتخضع له المشاعر، وينطلق ليصبح حياة في الوجدان، ويقظة في الضمير، وليكون موقفا، وحركة وسلوكا، وسجية وبادرة عفوية صريحة وخالصة.
مع أنه في الوقت نفسه لا يزال هذا الغيب منفصلا على إحساس الحواس، حيث لا يمكنها أن تناله، وتبقى عاجزة حياله، إذ هو متصل بما هو أسمى منها، ويغنيه عنها، مستمسك بأسبابه، ومنطلق في رحابه.
وبنظرة إجمالية على الوسائل والدلائل التي تجسد هذا الغيب في قلب الإنسان، وتحوله إلى عنصر إيماني مؤثر وفاعل... نجد: أن الإسلام في تعاطيه التربوي مع هذه الناحية الحساسة، قد أراد للغيب أن ينطلق من بوتقة الفكر والوعي ليستقر في القلب، وليحتضنه هذا القلب بحنان ليجد معه الرضا والسكينة، وليهوم ـ من ثم ـ في رحاب الروح، في تفاعل مشاعري، وعاطفي متوهج وعارم.
ثم هو لا يزال يسري في كل كيان الإنسان، ليصوغ أحاسيسه، ومشاعره، وليصبح من ثم سمعه وبصره، وفكره، وبسمته،
ولغته ولفتته العفوية، وسلوكه، وموقفه، بل كل شئ في حياته.
ولأجل ذلك كله، كان لا بد أن يمتزج الفكر بالعاطفة، لتصبح مأساة الزهراء، وذكرى الحسين (ع) في عاشوراء، ومأساة طفله الرضيع و.. جزءا من الحقيقة الايمانية، وهكذا يصبح كل ما قاله الرسول (ص) والأئمة الطاهرون عليهم السلام يمثل ضرورة ثقافية لاستكمال الإيمان بحقائق الإسلام، ومنها الإيمان بالغيب.
فلا غرو إذن أن يتجسد هذا المعنى الغيبي معجزة وكرامة إلهية وواقعا حيا ومؤثرا في وعي الإنسان ـ يتجسد ـ بالحجر الأسود، حيث أودعه الله مواثيق الخلائق، وبالإسراء والمعراج، وباستقرار يونس في بطن الحوت، وفي حديث النملة، حيث تبسم سليمان ضاحكا من قولها، وبالإتيان له بعرش بلقيس من اليمن قبل ارتداد طرفه إليه، وبحديث فاطمة مع أمها وهي في بطنها، وبأعراس السماء بمناسبة زواجها من علي(ع)، وبحديث الملك معها حتى كتب علي(ع) عنه مصحف فاطمة.
وبأن الملائكة كانت تناديها كما تنادى مريم ابنة عمران، فتقول: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك الخ.. فسميت محدثة لأجل ذلك(8).
ولا غرو أن يتجسد لنا هذا الغيب في أن فاطمة نور، وبأنها حوراء إنسية قد خلقت من ثمر الجنة (9)، الذي يمتاز عن ثمر الدنيا
____________
8- كشف الغمة: ج 2 ص 94. ودلائل الإمامة: ص 56 وراجع: علل الشرائع: ج 1 ص 182 و 183 وروضة المتين: ج 5 ص 345. 9- راجع: علل الشرائع: ج 1 ص 182 و 184 ومصادر ذلك كثيرة جدا لا مجال لتعدادها.
بنقائه وصفائه وخلوصه وطهره، وقد زادته فاطمة صفاء على صفاء، وطهرا على طهر، بما بذلته من جهد موفق من خلال معرفتها بالله، وما نالته من إشراف على أسرار الخلق ونواميس الحياة، ففازت بالتأييد والتسديد واللطف الإلهي، فكانت المرأة المعصومة التي يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها، حتى باتت سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، إلى غير ذلك من أمور دلت على أن لها(ع) ارتباطا وثيقا بالغيب، ومقاما وموقعا، وكرامة إلهية، لا تنالها عقولنا، ولا تصل إليها أفهامنا.
فيتضح مما تقدم: أنه إذا تجسد هذا الغيب برموز معينة، كأنبياء الله، وأصفيائه، وأوليائه وأصحاب كراماته، وبما لهم من مآثر وكرامات، وبرموز كثيرة أخرى، فإن قلوبنا ستحتضنها وستحتضن معها الغيب المودع فيها لتكون محور الإيمان ومعقد القلب لتعيش حالة السكينة والرضا أرواحنا، ولتحنو عليها مشاعرنا، فتدغدغ أحاسيسنا، ويكون العلم بذلك كله ينفع من علمه، والجهل به يضر من جهله بدرجة كبيرة وخطيرة.
وليس بالضرورة أن يستتبع اختلاف مفردات تجسيد الغيب في الأشخاص كالأنبياء والأوصياء والأولياء تفاضلا لهذا على ذاك أو بالعكس، إذ قد تكون طبيعة المرحلة، أو ظروف معينة هي التي فرضت هذه الخصوصية الغيبية هنا وتلك هناك.
أما التفاضل فله معاييره الخاصة به، التي نطق بها القرآن العظيم، والرسول الكريم(10)، وليس هذا منها فكل هذه الغيوب
____________
10- فإن مقامات الأنبياء والأوصياء درجات، بحسب درجات معرفتهم التي تستتبع مزيدا من الخلوص والخشية، والجهد، والقرب إلى الله، ونيل درجات، والرضا والزلفى.
المرتبطة بالزهراء عليها السلام وبغيرها هي جزء من هذا الدين، ولها أهميتها البالغة في صياغة الشخصية الايمانية، والإنسانية، والرسالية، بما لها من خصائص تحقق للانسان وجوده، وتخصصه، وتميزه، وتجعله على درجة عالية من الصفاء والنقاء والطهر، كما أنها تحقق درجة من الارتباط الوجداني بأولياء الله وأصفيائه، والمزيد من الحب لهم وبهم، والتفاعل الضميري والوجداني مع كل ما يقولون وما يفعلون.
وقد أخبر الأئمة (ع) بعض الخلص من أصحابهم ببعض الغيوب، من أمثال ميثم التمار، وزرارة، ومحمد بن مسلم، وغيرهم، فما أنفع الغيوب لمن علمها وتعلمها، وما أروع هذه الكرامات، وما أجلها وأشد تأثيرها، وما أعظم الحاجة إليها، وما أروع القرآن العظيم، وهو يركز على كثير من المفردات التي تدخل في هذا السياق، معلنا بذلك أهميتها البالغة، في بناء الشخصية الإنسانية والإيمانية والرسالية.
الارتباط الفكري لا يكفي:
فلا يصح إذن ما يردده البعض من أن المطلوب هو مجرد الارتباط الفكري بهم(ع) من خلال معرفتنا بسياساتهم، وأنماط سلوكهم الشخصي، وبأنشطتهم الاجتماعية ليكونوا لنا أسوة وقدوة على طريقة التقليد والمحاكاة، وليثير ذلك فينا حالة من الزهو والإعجاب بهم كأشخاص، كإعجابنا بغيرهم من العباقرة والمفكرين، مثل أديسون أو ابن سينا.
إذ أن المطلوب هو الارتباط الفكري، والضميري، والوجداني الذي تشارك فيه المشاعر، وتستجيب له الأحاسيس بعفوية وانقياد،
ويهتز له كل كيان الإنسان وعمق وجوده بطواعية واستسلام.
المطلوب هو أن يدخل هؤلاء الأصفياء إلى قلوبنا ليكونوا حياة لها، وإلى أرواحنا لتكون أكثر توهجا وتألقا، وإلى نفوسنا لتصبح أكثر صفاء ونقاء وخلوصا.
المطلوب هو أن يكون لهم الحظ الأوفر في صياغة شخصيتنا الايمانية وأن يسهموا في صنع مشاعرنا وتكوين أحاسيسنا.
ولنستبعد نهائيا إذن مقولة: هذا علم لا ينفع من علمه، ولا يضر من جهله، فإنها مقولة مضرة بالتأكيد لا تجلب لنا إلا الخسران، والبوار والخيبة.
ولو غضضنا النظر عن ذلك كله، فإن ميزان النفع والضرر الذي يتحدثون عنه غير واضح المعالم، فهو يختلف في حالاته وموارده، فقد يكون الحديث عن الطب غير نافع للنجار في مهنته، والحديث عن الفلك غير نافع للحداد، أو الحائك في حرفته، أو للإداري في دائرة عمله..
لكن الأمر بالنسبة لقضايا الإيمان والسلوك ليس بالضرورة من هذا القبيل وإن كانت درجات المعرفة ومقتضياتها تختلف من شخص لآخر على قاعدة: أمرنا أن نحدث الناس على قدر عقولهم.
تنزه الزهراء(ع) عن الطمث والنفاس:
يقول البعض: إن عدم رؤية السيدة الزهراء للعادة الشهرية يعتبر حالة مرضية تحتاج إلى العلاج؟ أو هي على الأقل حالة نقص في
أنوثتها وفي شخصيتها كامرأة، ولا يمكن عدها من كراماتها وفضائلها، وكذا الحال بالنسبة للنفاس.
بل يصف هذا البعض القول بتنزه الزهراء عن الطمث والنفاس بأنه من السخافات.
ونقول:
أولا:قد يحدث لبعض النساء ـ وإن كان ذلك قليلا ـ أن لا ترى دما حين الولادة، أو ترى شيئا يسيرا منه، ولا يعد ذلك نقصا في أنوثتها وشخصيتها كامرأة.
وأما بالنسبة لتنزه الزهراء(ع) عن العادة الشهرية، فإننا نقول:
إن الخروج عن مضائق الطبيعة لا يعد نقصا، بل هو كرامة وفضل، ككرامة مريم عليها السلام حيث حملت بعيسى(ع) ولم يمسسها بشر، وزوجة إبراهيم(ع) أيضا قد حملت وهي عجوز، وحملت زوجة زكريا(ع) وهي عاقر.
وأمثال ذلك من الكرامات وخوارق العادات كثير..
وإن تنزه الزهراء(ع) عن ذلك يشير إلى علو مقامها، وإلى خصوصية تميزها عن كل من سواها، ما دام أن المحيض من الأذى، كما قال سبحانه(11).
وحصول هذا الأذى للمرأة يجعلها في حرج وفي وضع نفسي وجسدي غير طبيعي. إنه اعتلال للمرأة، كما في بعض الروايات،
____________
11- قال تعالى:{ويسألونك عن المحيض. قل: هو أذى، فاعتزلوا النساء في المحيض} سورة البقرة: 222.
وحالة مرضية لها ـ كما يذكره الأطباء في أبحاثهم حول هذا الموضوع ـ وهو يقعدها عن الصوم، وعن الصلاة، ويمنعها من الدخول إلى المساجد، وما إلى ذلك من أمور تشير إلى أن المرأة ليست في وضع يمكنها من أن تعيش الأجواء الروحية بكل حيويتها، وصفائها، ونقائها، وقوتها..
إن هذا الحدث المستمر الذي لا يرفعه وضوء ولا غسل ولا تيمم، إلى أن يرتفع هو بنفسه ويزول. قد نزه الله عنه سيدة النساء التي طهرها الله من الرجس تطهيرا، إكراما لها، وحرصا على تأكيد تميزها عن كل من عداها، وتخصيصها من الله سبحانه بفضيلة وكرامة، دون أن يكون في ذلك أي تغيير في طبيعتها الأنثوية، والله تعالى هو مسبب الأسباب، وهو القادر على أن يتجاوز قانون العلية والتسبيب، لا بالخروج عنه وتحطيمه، وإنما بقانون العلية نفسه، حيث إنه تعالى يوجد حتى معجزات الأنبياء، بواسطة أسباب وعلل لها، استأثر بعلمه بها، في حين أن البشر لم يطلعوا عليها، ولا هي معهودة لديهم، وهذا هو معنى خرق العادة الذي يتحدثون عنه في موضوع المعجزات والخوارق.
ولعل ذلك أظهر من أن يحتاج إلى مزيد بيان، أو إلى إقامة دليل أو برهان.
ثانيا:إن اعتبار القول بتنزيه الزهراء عن الحيض والنفاس من السخف غير مقبول ممن يتعبد ويعمل بأقوال النبي (ص)، بل والأئمة (ع) لأن كل ما يقوله النبي (ص) والأئمة الطاهرون(ع) لا يمكن أن يكون سخيفا على الإطلاق، ولا غير نافع لمن علمه.
وقد روي ذلك التنزه من طرق الشيعة والسنة عن رسول الله
(ص) وعن الأئمة الطاهرين في نصوص كثيرة، تخرج عن حد الاستفاضة لتصل إلى حد التواتر، وهي تدل على أن الله سبحانه قد نزه الزهراء عليها السلام عن رؤية دم الحيض والنفاس.
ونذكر من هذه الروايات ما يلي:
1 ـعن النبي (ص): إنما سميت فاطمة البتول لأنها تبتلت من الحيض والنفاس(12).
2 ـ وعنه (ص): أن ابنتي فاطمة حوراء لم تحض، ولم تطمث (13).
3 ـوروى الصدوق بسنده عن عمر بن علي(ع) عن أبيه علي(ع): أن النبي (ص) سئل ما البتول؟! فإنا سمعناك يا رسول الله تقول: إن مريم بتول، وفاطمة بتول؟
قال: البتول التي لن (لم) تر حمرة قط ـ أي لم تحض ـ فإن الحيض مكروه في بنات الأنبياء (14).
____________
12- ينابيع المودة: ص 260 وإحقاق الحق (الملحقات): ج 10 ص 25 عنه وعن مودة القربى: ص 103. 13- ذخائر العقبى ص 26 وشرح بهجة المحافل ج 2 ص 138. وراجع: عوالم العلوم:
ج 11 ص 54 وفي هامشه عن: تاريخ بغداد: ج 12 ص 331 وعن كنز العمال: ج 12 ص 109 ح
3426 وعن مصادر كثيرة أخرى، وإسعاف الراغبين ومطبوع بهامش نور الأبصار: ص 173. 14- معاني الأخبار: ص 64 ومناقب آل أبي طالب: ج 3 ص 330 عن أبي صالح
المؤذن في الأربعين وتاج المواليد: ص 20 وكشف الغمة: ج 2 ص 90 والبحار ج 43 ص 16 /
15 راجع: ج 78 ص 112 عنهما، وينابيع المودة: ص 260 ومستدرك الوسائل: ج 2 ص 37.
وعلل الشرائع: ج 1 ص 181 وعن مصباح الأنوار: ص 223 ومصباح الكفعمي: ص 659 وروضة
الواعظين: ص 149
ودلائل الإمامة:
ص 55 والروضة الفيحاء في تواريخ النساء: ص 252 وحبيب السير: ج 1 ص 433 وضياء
العالمين مخطوط : ج 2 ق 3 ص 7 وإحقاق الحق: ج 10 ص 25 و 310 و ج 19 ص
11 عن مصادر أخرى والعوالم: ج 1 ص 641 وراجع: إعلام الورى: ص 148.
4 ـوروى القطان، عن السكري، عن الجوهري، عن العباس بن بكار، عن عبد الله بن المثنى، عن عمه ثمامة بن عبد الله، عن أنس بن مالك، عن أمه، قالت ما رأت فاطمة دما في حيض، ولا في نفاس(15).
5 ـوروي عن أبي جعفر عن آبائه(ع): أنها عليها السلام إنما سميت الطاهرة لعدة أمور، ومنها: وما رأت قط يوما حمرة ولا نفاسا(16).
6 ـالصادق عليه السلام: تدري أي شئ تفسير فاطمة؟! قال: فطمت من الشر، ويقال: إنما سميت فاطمة لأنها فطمت من الطمث (17).
7 ـوقال (ص) لعائشة: يا حميراء، إن فاطمة ليست كنساء الآدميين، لا تعتل كما تعتلن وفي لفظ آخر: كما يعتللن(18).
8 ـوعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: حرم الله النساء
____________
15- الأمالي للصدوق: ص 154 والبحار: ج
43 ص 21 وراجع: العوالم: ج 11 ص 153 وفي هامشه عن العديد من المصادر. 16- البحار: ج 43 ص 19 عن مصباح الأنوار وعوالم العلوم: ج 11 ص 66. 17- مناقب آل أبي طالب: ج 3 ص 330، والبحار: ج 43 ص 16. 18- المصدران السابقان ومجمع الزوائد: ج 9 ص 202 عن الطبراني وإعلام
الورى: ص 148 ومرآة العقول: ج 5 ص 345 والطرائف: ص 111 والعوالم (قسم حياة الزهراء):
ص 64 وضياء العالمين مخطوط : ج 2 ق 4 ص 7.
على علي(ع) ما دامت فاطمة حية، لأنها طاهرة لا تحيض(19).
ولصاحب البحار شيخ الإسلام العالمة المجلسي الثاني كلام جيد يتعلق بهذا الأمر فليراجع.. ثمة.
9 ـعن عائشة قالت: إذا أقبلت فاطمة كانت مشيتها مشية رسول الله (ص): وكانت لا تحيض قط، لأنها خلقت من تفاحة الجنة(20).
10 ـوفي دلائل الإمامة بأسناده عن أسماء بنت عميس، قالت: قال لي رسول الله، وقد كنت شهدت فاطمة، وقد ولدت بعض ولدها فلم نر لها دما، فقلت يا رسول الله (ص): إن فاطمة ولدت ولم نر لها دما؟
فقال رسول الله (ص): يا؟؟؟ إن فاطمة خست حورية إنسية(21).
11 ـوعن علي عليه السلام قال رسول الله (ص) إن فاطمة
____________
19- راجع: مقتل الحسين للخوارزمي: ج 1 ص 64 ومناقب آل أبي طالب: ج 3 ص 330
والبحار: ج 43 ص 16 و 153 عنه وعن أمالى الطوسي: ج؟ ص 42 ومستدرك الوسائل: ج 2 ص
42. وراجع: التهذيب: ج 7 ص 475 وبشارة المصطفى: ص 306 وراجع: عوالم العلوم ج 11 ص
66 3870. وضياء العالمين مخطوط : ج 2 ق 3 ص 7.. 20- أخبار الدول: ص 87 ط بغداد على ما في إحقاق الحق (ملحقات): ج 10 ص
244. وراجع: عوالم العلوم: ج؟؟؟ ص 60. 21- دلائل الإمامة: ص 53 و 55 والبحار: ج 78 ص 112 وراجع ج 43 ص 7 عن كشف
الغمة.
خلقت حورية في صورة أنسية، وإن بنات الأنبياء لا يحضن(22).
12 ـوفي رواية عن أبي جعفر: فسماها فاطمة، ثم قال: إني فطمتك بالعلم، وفطمتك عن الطمث ، ثم قال أبو جعفر عليه السلام: والله، لقد فطمها الله تبارك وتعالى بالعلم، وعن الطمث بالميثاق (23).
وقد وصف المجلسي الأول هذا الخبر بالقوي (24).
13 ـوروى الصدوق رحمه الله عن أبيه، عن سعد، عن ابن عيسى، عن علي بن الحكم عن أبي جميلة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: إن بنات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يطمثن إنما الطمث عقوبة الخ.. (25).
14 ـوعن أبي عبد الله(ع) قال: إن بنات الأنبياء لا يحضن (26).
15 ـقال السيوطي: من خصائص فاطمة(ع) أنها كانت لا
____________
22- دلائل الإمامة: ص 52، والبحار ج 78 ص 112 ومستدرك الوسائل: ج 2 ص 37. 23- البحار: ج 43 ص 13 عن مصباح الأنوار وكشف الغمة: ج 2 ص 89. وعلل
الشرائع: ص 179 وعوالم العلوم: ج 11 ص 55 وفي هامشه عن المصادر التالية: الكافي: ج
1 ص 46 والمحتضر: ص 132 و 138 والمختصر: ص 172 و 218 وغير ذلك. 25- علل الشرائع: ج 1 ص 290 ح 1 والبحار: ج 43 ص 25 و ج 12 ص 107 و ج 81 ص
81. وعوالم العلوم: ج 11 ص 153 ومستدرك الوسائل: ج 2 ص 38. 26- الخرائج والجرائح: ج 2 ص 527.
تحيض (27).
16 ـوقال الصبان: سميت الزهراء أي الطاهرة، فإنها لم تر لها دما في حيض ولا في ولادة (28).
17 ـوروي في حديث عن النبي صلى الله عليه وآله قال: وسميت فاطمة بتولا، لأنها تبتلت وتقطعت عما هو معتاد العورات في كل شهر الخ.. (29).
18 ـعن أسماء بنت عميس، قالت: قبلت فاطمة عليها السلام، فلم أر لها دما، فقلت: يا رسول الله، إني لم أر لفاطمة دما في حيض ولا نفاس.
فقال لها رسول الله (ص): أما علمت أن ابنتي طاهرة مطهرة لا يرى لها دم في طمث، ولا في ولادة (30).
19 ـوقال في عمدة الأخبار: مولد الحسن بن علي عليه السلام في منتصف رمضان، وعلقت أمه بالحسين عليه السلام عقب الولادة بالحسن عليه السلام، لأن فاطمة عليها السلام لا ترى طمثا
____________
27- إحقاق الحق (الملحقات): ج 10 ص 309 عن الشرف المؤبد السيوطي وراجع:
عوالم العلوم: ج 11 ص 63. 28- راجع: إسعاف الراغبين (مطبوع بهامش نور الأبصار): ص 172، ونسب ذلك إلى
المحب الطبري، وإلى صاحب الفتاوى الظهيرية الحنفي. 29- إحقاق الحق: ج 10 ص 25 عن المناقب المرتضوية: ص 78 وعوالم العلوم: ج
11 ص 64. 30- راجع: العوالم (حياة الزهراء): ص 66 و 153 عن صحيفة الرضا(ع) وذخائر
العقبى: ص 44 وإتحاف السائل: ص 90 وتاريخ الخميس: ج 1 ص 417 ونزهة المجالس: ج 2 ص
183، وضياء العالمين مخطوط : ج 2 ق 3 ص 7.
ولا نفاسا(31).
20 ـوعن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص): إن ابنتي فاطمة حوراء، إذ لم تحض، ولم تطمث.
قال المحب الطبري: الطمث، الحيض، وكرر لاختلاف اللفظ (32).
21 ـوفي الصحيح: عن علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن عليه السلام، قال: إن فاطمة صديقة شهيدة، وإن بنات الأنبياء لا يطمثن (33).
22 ـعن أنس بن مالك، عن أم سليم زوجة أبي طلحة الأنصاري: أنها قالت: لم تر فاطمة (ع) دما قط في حيض ولا نفاس، وكانت من ماء الجنة، وذلك إن رسول الله (ص) لما أسري به دخل الجنة، وأكل من فاكهة الجنة، وشرب من ماء الجنة رواه أيضا عن النبي (34).
23 ـوقد روي عنهم عليهم السلام: أن سبيل أمهات الأئمة عليهم السلام سبيل فاطمة عليها السلام في ارتفاع الحيض عنهن إلخ..(35).
____________
31- العوالم (حياة الزهراء): ص 66 عن عمدة الأخبار: ص 349. 32- ذخائر العقبى: ص 26 عن النسائي. وفرائد السمطين: ج 2 ص 48 وراجع تاريخ بغداد: ج 12 ص 331. 33- روضة المتقين ج 5 ص 342 والكافي: ج 1 ص 458. 35- تاج المواليد للطبرسي ص 20 مطبوع ضمن مجموعة رسائل نفيسة، انتشارات بصيرتي ـ قم ـ ايران.
24 ـ وعن النبي (ص) ـ مرسلا ـ أنه قال: إن فاطمة ليست كإحداكن، إنها لا ترى دما في حيض ولا نفاس، كالحورية(36).
تأويل النصوص:
وحين تواجه البعض، هذه النصوص الكثيرة في أمر كهذا، فيقع في حيرة من أمره، حيث لا مجال له لردها، لأنها متواترة أو تكاد، فإنه يقول لك: إن اللازم هو تأويل هذه النصوص، تماما كما هو الحال بالنسبة للنصوص الدالة على الرجعة، أو غيرها..
ونقول:
إنه لا مجال للتأويل، لا في هذه النصوص ولا في تلك، بل علينا ـ إذا لم نستطع فهمها ـ أن نرد علمها إلى الله، كما قاله الخواجوئي المازندراني، وهو يتحدث عن موضوع الرجعة، وإليك عبارته:
وليس ينبغي أن يعجب من ذلك، فالأمور المجهولة العلل لا يعجب منها. ألا يرى إلى قول سيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه ـ وقد سبق ـ: هذا علم يسع الناس جهله، ورد علمه إلى الله؟!
على أن بعضه كفوز الأولياء بثواب النصرة والمعونة، وبهجتهم بظهور الدولة والسلطنة، وكالانتقام من الأعداء، ونيل بعض ما يستحقونه من العقاب والعذاب في الدنيا، إلى غير ذلك، مذكور في
____________
36- رواه الصدوق في كتاب الفقيه باب غسل الحيض من كتاب الطهارة.
الأخبار الخ..(37).
نعم لا مجال للتأويل، وذلك لما يلي:
1 ـ إن النص إذا تضمن أمرا توقيفيا، لا مسرح للعقل فيه، ولا يخالف الثوابت العقلية ولا الدينية، فلا بد من قبوله.
2 ـ إذا لم نفهم نحن هذا النص، ولم نستطع إدراك الحكمة فيه، فليس لنا أن نرده، وليس لنا أن نأوله، إذ قد يأتي زمان تترقى فيه قوانا الفكرية، وعقولنا، ويزيد فيه علمنا، ونعرف الحكمة فيه. وقد تمر عشرات السنين بل المئات ليقطع البشر شوطا بعيدا في التقدم الفكري والعلمي ليمكن لنا أن تتحقق من السر أو من الحكمة، أو من المعنى الدقيق لبعض النصوص.
ونحن إنما فهمنا العديد من معاني آيات القرآن الكريم، كالآيات الكونية وسواها في هذا القرن العشرين، وفي خصوص هذين العقدين الأخيرين وما لم نفهمه أكثر.
3 ـ إن تأويل النص إنما يتم في صورة ما لو جاء مخالفا في ظاهره البدوي لما يحكم به العقل، أو مخالفا للثوابت والمسلمات الشرعية وغيرها، شرط أن يكون هذا التأويل مقبولا ومعقولا وممكنا.
4 ـ إذا كان النص الوارد غير قابل للتأويل المقبول عند أهل اللسان. وكان نصا صريحا مخالفا للمسلمات، العقلية والشرعية، ومخالفا لصريح القرآن، فلا بد حينئذ من رفضه، ورده، وضربه على الجدار، للعلم حينئذ بأن المعصوم لم يقله، ولم يتفوه به.
____________
37- الرسائل الاعتقادية: ص 115.
وهكذا يتضح: أن الاستناد إلى الاستبعادات والاستحسانات في أمور ترتبط بالغيب، وما لا طريق لنا إلى الإطلاع عليه، وكذا عدم القدرة على تعقل أو فهم بعض الأمور، الواردة في النصوص، لا يبرر رفض النص، ولا يلزمنا بتأويله، وذلك واضح وظاهر(38).
____________
38- الرجعة المثال الآخر: ويشبه ما نحن فيه، ما يقوله البعض عن موضوع الرجعة أيضا وذلك لأن من الواضح أن هناك أمورا تثبت الإجماع أو بالدليل العقلي، وهما دليلان لبيان ولا مجال للتأويل في الدليل اللبي، كما ذكره السيد المرتضى (قدس سره) ردا على من قال بلزوم تأويل أحاديث الرجعة برجوع الدولة، والأمر والنهي، حيث قال ما لفظه:
إن قوما من الشيعة لما عجزوا عن نصرة الرجعة، وبيان جوازها وأنها تنافي التكليف عولوا على هذا التأويل للأخبار الواردة بالرجعة.
وهذا منهم غير صحيح، لأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة، فيطرق التأويلات عليها، فكيف يثبت ما هو مقطوع على صحته بأخبار الآحاد التي لا توجب العلم؟
وإنما المعول في إثبات الرجعة على إجماع الإمامية على معناها، بأن الله تعالى يحيي أمواتا عند قيام القائم(ع)، من أوليائه وأعدائه على ما بيناه، فكيف يطرق التأويل على ما هو معلوم رسائل الشريف المرتضى ج 1 ص 126.
فالسيد المرتضى رحمه الله يقول إذن:
1 ـ إن الرجعة ثابتة بإجماع الإمامية.
2 ـ إن الإجماع دليل لبي، والدليل اللبي غير قابل للتأويل، لأنه ليس من النصوص ليمكن تأويله.
3 ـ إن الذين خالفوا، إنما خالفوا بعد القطع بتحقق إجماع الإمامية على هذا الأمر، فلا تضر مخالفتهم الإجماع، بل هو يحتج عليهم به، ويلزمهم بموافقته،وباعتماده.
4 ـ إن الرجعة ليست من المدركات العقلية، ليحتكم فيها إلى العقل، أو لكي يسأل العقل عنها، بل هي أمر غيبي لا يعرف إلا بالنقل أو الإجماع الكاشف عن إبلاغ المعصوم لهذا الأمر للناس، وإجماع المجمعين ـ كما يقول السيد المرتضى ـ قد كشف لنا عن معرفتهم بهذا الأمر التوقيفي، الذي أخذوه عن المعصومين(ع).
وإذا كانت الرجعة ثابتة بالأخبار المتواترة، فإن ما ذكرناه من عدم جواز الالتجاء إلى تأويل أخبارها، إلا إذا صادمت الحكم العقلي الفطري، وهي لا تصادمه، قطعا، غاية ما هناك عجز بعضهم عن إدراك مغزاها، وذلك لا يبرر تأويل أخبارها كما قلنا.
إن هذا الذي ذكرناه جار هنا ولا مجال لإنكاره.
وللتدليل على ما ذكرناه من ثبوت الرجعة بالدليل القطعي، نذكر هنا كلام بعض الأعلام.
فنقول:
قال ابن البراج في كتابه جواهر الفقه ص 250، وهو يعدد العقائد الجعفرية: يرجع نبينا وأئمتنا المعصومون في زمان المهدي مع جماعة من الأمم السابقة واللاحقة، لإظهار دولتهم وحقهم، وبه قطعت المتواترات من الروايات والآيات.
ويقول: السيد عبد الله شبر في كتابه حق
اليقين ص 2 و 3: إعلم أن ثبوت الرجعة مما اجتمعت عليه السنة الحقة والفرقة المحقة، بل هي من ضروريات مذهبهم، وقال العلامة المجلسي رحمه الله: أجمعت الشيعة على ثبوت الرجعة في جميع الأعصار واشتهرت بهم كالشمس في رابعة النهار حتى نظمتها في أشعارهم واحتجوا بها على المخالفين في جميع أمصارهم وشنع أعداءهم عليهم في ذلك وأثبتوه في كتبهم وأسفارهم منهم الرازي والنيشابوري؟؟؟ غيرهما. وكيف يشك مؤمن بأحقية الأئمة الأطهار فيما تواترت = عنهم في قريب من مائتي حديث صريح رواها نيف وأربعون من الثقاة العظام والعلماء الأعلام في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم كثقة الإسلام الكليني والصدوق محمد بن بابويه والشيخ أبي جعفر الطوسي والسيد المرتضى والنجاشي والكشي والعياشي وعلي ابن إبراهيم وسليم الهلالي والشيخ المفيد والكراجكي والنعماني والصفار وسعد بن عبد الله وابن قولويه وعلي بن عبد الحميد والسيد علي بن طاوس وولده صاحب كتاب زوائد الفوائد ومحمد بن علي بن إبراهيم وفرات بن إبراهيم ومؤلف كتاب التنزيل والتحريف وأبي الفضل الطبرسي وأبي طالب الطبرسي وإبراهيم بن محمد الثقفي ومحمد بن العباس بن مروان والبرقي وابن شهرآشوب والحسن بن سليمان والقطب الراوندي والعلامة الحلي والسيد بهاء الدين علي بن عبد الكريم وأحمد بن داود بن سعيد والحسن بن علي بن أبي حمزة والفضل بن شاذان والشيخ الشهيد محمد بن مكي والحسين بن حمدان والحسن بن محمد بن جمهور والحسن بن محبوب وجعفر بن محمد بن مالك الكوفي وطهر بن عبد الله وشاذان بن جبرئيل وصاحب كتاب الفضائل ومؤلف الكتاب العتيق ومؤلف كتاب الخطب وغيرهم من مؤلفي الكتب التي عندنا ولم نعرف مؤلفه على التعيين.
وإذا لم يكن مثل هذا متواترا ففي أي شئ دعوى التواتر مع ما روته كافة الشيعة خلفا عن سلف وظني أن من يشك في أمثالها فهو شاك في أئمة الدين ولا يمكنه إظهار ذلك من بين المؤمنين فيحتال في تخريب الملة القويمة بإلقاء ما يتسارع إليه عقول المستضعفين من استبعادات المتفلسفين وتشكيكات الملحدين {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} وقد صنف جماعة من القدماء كتبا في حقية الرجعة فمنهم أحمد بن داود بن سعيد الجرجاني قال الشيخ في الفهرست له كتاب المتعة والرجعة ومنهم الحسن بن علي بن أبي حمزة البطايني وعد النجاشي من جملة كتبه كتاب الرجعة. ومنهم الفضل بن شاذان النيشابوري ذكر الشيخ في الفهرست والنجاشي أن له كتابا في إثبات الرجعة ومنهم الصدوق محمد بن علي ابن بابويه فإنه عد النجاشي من كتبه كتاب الرجعة. ومنهم محمد بن مسعود = (تابع هامش الصفحة السابقة) = النجاشي ذكر النجاشي والشيخ في الفهرست كتابه في الرجعة. ومنهم الحسن بن سليمان وستأتي الرواية عنه.
(أقول) ولذا تضافرت الأخبار عن الأئمة الأطهار(ع): ليس منا من لم يؤمن برجعتنا ففي الفقيه عن الصادق(ع) قال: ليس منا من لم يؤمن بكرتنا ويستحل متعتنا.
والرجعة عبارة عن حشر قوم عند قيام القائم ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ويبتهجوا بظهور دولته وقوم من أعدائه لينتقم منهم وينالوا بعض ما يستحقونه من العذاب والقتل على أيدي شيعته وليبتلوا بالذل والخزي بما يشاهدون من علو كلمته وهي عندنا تختص بمن محض الإيمان ومحض الكفر والباقون مسكوت عنهم كما وردت به النصوص الكثيرة ويدل على ثبوتها مضافا إلى الإجماع بل ضرورة المذهب، الكتاب والسنة.