هل الزهراء (ع) أول مؤلفة في الإسلام؟
قد يقال: إن الزهراء (عليها السلام) هي أول مؤلفة في الإسلام، إذ قد دلت الروايات على أنه قد كان لها مصحف، عرف باسم مصحف الزهراء، فإن هذه التسمية تدل على ما ذكرناه، لأننا إذا قلنا: مصحف الزهراء فذلك يعني أن لها دورا في تأليف وكتابة هذا المصحف.
وبعبارة أخرى: إن نسبة الكتاب إلى فاطمة(ع) يدل على أنها صاحبة الكتاب، كما أن نسبة الكتاب إلى علي(ع) في ما ورد عن الأئمة(ع) عن كتاب علي يتبادر منه أن صاحبه علي(ع).
وخلاصة ذلك: إنه لا مانع من القول: إنها أول مؤلفة في الإسلام .
ونقول في الجواب:
إن نسبة المصحف إلى الزهراء، وقولهم: مصحف فاطمة لا يعني بالضرورة أنها هي التي ألفته وكتبته، فأنت تقول: هذا كتاب فلان، إذا كان له نوع ارتباط به ولو من حيث ملكيته له، وتقول: هذه ساعة فلان، وقميص فلان، وبيت فلان، ولا يعني ذلك أنه هو الذي صنع الساعة، أو بنى، أو ملك البيت، أو حتى خاط القميص، فضلا عن أن يكون قد نسجه، أو ما إلى ذلك.
وفي الرواية: مسجد المرأة بيتها، ويقال: لا تخرج المرأة من بيتها إلا بإذن زوجها، مع أن لها مجرد السكن في البيت.
ولأجل ذلك يقال أيضا: زبور آل داوود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، ويقال أيضا: مصحف عثمان. ويقال كذلك: صحف إبراهيم وموسى، ودعاء كميل وعهد الأشتر.
قال الله تعالى: {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى}.
فهل هذا يعني أن هذه الصحف كانت من تأليفهما عليهما السلام؟! أو أنهما كتباها بيديهما؟!
وقد ذكر هذا القائل نفسه روايات تدل على: أن مصحف فاطمة قد كتب في زمن الرسول، وبعد وفاته بخط علي، وإملاء الملك أو النبي، فما معنى قوله بعد ذكره لتلك الروايات: وخلاصة ذلك: أنه لا مانع من القول: إنها أول مؤلفة في الإسلام؟.
فالمصحف إذن قد كتب لأجلها وبسببها، وهي التي ستستفيد منه، وملكيته أيضا تعود إليها، وفيه وصيتها، فهذا كله يكفي في
صحة نسبة المصحف إليها (عليها السلام)، ولا حاجة إلى أن تكون قد شاركت في كتابته وتأليفه.
هذا بالإضافة إلى عدم توفر ما يثبت مشاركتها في كتابته من وجهة نظر تاريخية، أو روائية، مع عدم وجود ضرورة تحتم إثبات ذلك، كما لا وجه للإصرار على استيحائه من نسبته إليها، أو غير ذلك.
وأما الاعتذار عن ذلك بأن المقصود هو إبراز صورة للمرأة المسلمة تنال إعجاب الآخرين بها.
فهو غير وجيه ولا مقبول، إذ هو يتضمن الايحاء بأمر لا واقعية له.. هذا بالإضافة إلى أن سيرة الزهراء(ع) وطهرها، وعلمها الذي أثبتته الروايات المتضافرة والمتواترة ولا سيما خطبتها في المسجد وغير ذلك يغني عن التشبث بأمر وهمي لا حقيقة له، فلا حاجة إلى إيهام الناس بأنها عليها السلام كانت مؤلفة أو غير مؤلفة.
هل في مصحف فاطمة (ع) أحكام الشرعية ؟
يزعم البعض: أن مصحف فاطمة يحوي أحكاما شرعية، وهو يستند في ذلك إلى رواية عن الإمام الصادق عليه السلام، تقول:
وعندي الجفر الأبيض، قال: قلت : فأي شئ فيه؟! قال: زبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وصحف إبراهيم عليهم السلام، والحلال والحرام، ومصحف فاطمة، ما أزعم أن فيه قرآنا، وفيه ما يحتاج الناس إلينا، ولا نحتاج إلى أحد، حتى فيه الجلدة ونصف
الجلدة، وربع الجلدة، وأرش الخدش(1).
ونقول:
أولا: إن قوله: وفيه ما يحتاج الناس إلينا ليس معطوفا على قوله: ما أزعم أن فيه قرآنا، ليكون بيانا لما يحتويه المصحف، وإنما هو معطوف على قوله: زبور داود، وتوراة موسى الخ.. أي إن في الجفر الأبيض: زبور داود، وتوراة موسى، ومصحف فاطمة، وفيه الحلال والحرام، وفيه ما يحتاج الناس إلينا.
وثمة رواية أخرى عن عنبسة بن مصعب ذكرت: أن في الجفر سلاح رسول الله، والكتب، ومصحف فاطمة (2).
ثانيا:لقد روى الكليني عن: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن حماد بن عثمان، عن الإمام الصادق عليه السلام، حديثا ذكر فيه أنه كان ملك بعد وفاة النبي يحدث الزهراء، ويسلي غمها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين، فقال لها: إذا أحسست بذلك، وسمعت الصوت قولي لي، فأعلمته ذلك، وجعل أمير المؤمنين(ع) يكتب كل ما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفا، ثم قال:
أما إنه ليس فيه شئ من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون (3).
____________
1- الكافي: ج 1 ص 240 والبحار: ج 26 ص 37 باب 1 حديث 68 وبصائر الدرجات: ص 150.
2- بصائر الدرجات: ص 154 و 156. والبحار: ج 26 ص 45 و 42 و ج 47 ص 271.
3- الكافي: ج 1 ص 240 وبصائر الدرجات: ص 157، وبحار الأنوار: ج 26 ص 44، و ج 43 ص 80 و ج 22 ص 45 باب 2، حديث 62 وعوالم العلوم: ج 11 القسم الخاص بالزهراء.
وقد ناقش البعض في هذا الحديث، فقال: إن المفروض في الملك أنه جاء يحدثها، ويسلي غمها، ليدخل عليها السرور، فيكف تشكو ذلك إلى أمير المؤمنين؟ مما يدل على أنها كانت متضايقة من ذلك.
كما أن الظاهر منه أن الإمام عليه السلام لا يعلم به، وأن المسألة كانت سماع صوت الملك، لا رؤيته. انتهى.
ونقول:
ليس ثمة مشكلة من حيث رؤية الملك أو سماع صوته فقط، ولا في أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يعلم ذلك أو لا يعلم.
وليس هذا هو محط النظر، وإن كان إثباته في غاية السهولة، لكن لا دور له في إثبات مصحف فاطمة أو نفيه، ولا في كونها أول مؤلفة في الإسلام أو عدمه، فلا داعي لطرح الكلام بهذه الكيفية.
وأما تضايقها عليها السلام فلم يكن من حديث الملك معها، بل كان لأجل أن الملك كان يذكر لها أيضا ما سيجري على ذريتها، ففي كتاب المحتضر: أن فاطمة (ع) لما توفي أبوها (ص) قالت لأمير المؤمنين (ع): إني لأسمع من يحدثني بأشياء ووقائع تكون في ذريتي، قال: فإذا سمعتيه فأمليه علي، فصارت تمليه عليه، وهو يكتب. وروي أنه بقدر القرآن ثلاث مرات، ليس فيه شئ من القرآن.
فلما كمله سماه مصحف فاطمة لأنها كانت محدثة
تحدثها الملائكة (4).
بل إن هذا المستشكل نفسه يذكر بعد كلامه السابق مباشرة رواية أبي عبيدة وفيها: وكان جبرائيل يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها، ويطيب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها، وكان(ع) يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة (5).
وقد وصف المجلسي الأول هذه الرواية بأنها صحيحة (6).
فحكم البعض على هذه الرواية بالضعف موضع نظر وتأمل، إذ أن الظاهر أن المراد بأبي عبيدة هو أبو عبيدة الحذاء أي زياد بن أبي رجاء، وهو ثقة، ولا ندري السبب في استظهار البعض: أنه المدائني!!
مع أننا لم نجد لابن رئاب رواية عن المدائني هذا، ولم يرو عن المدائني سوى رواية واحدة فيما يظهر. ولعلها من الاشتباه في النسبة من قبل الرواة.
فإذا أطلق أبو عبيدة فالمقصود هو الحذاء، لا سيما مع تعدد رواية ابن رئاب عنه، ومع عدم وجود شئ ذي بال يرويه عن المدائني(7).
والملفت للنظر أيضا: أن هذا البعض قد علق على هذا الحديث
____________
4- عوالم العلوم: ج 11 ص 583 (مسند فاطمة) عن المحتضر: ص 132.
5- الكافي: ج 1 ص 240 و 241 و 457 و 458. والبحار: ج 22 ص 545 وراجع المناقب لابن شهر آشوب: ج 3 ص 337 ط المطبعة العلمية ـ قم ـ ايران.
6- روضة المتقين: ج 5 ص 342 ومرآة العقول ج 3 ص 59 و ج 5 ص 314.
7- ولا بأس بمراجعة معجم رجال الحديث: ج 21 ص 233 / 236.
بأنه ظاهر في اختصاص العلم بما يكون في ذريتها فقط، بينما الرواية الأخرى تتحدث عن الأعم من ذلك، حتى إنها تتحدث عن ظهور الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومئة، وهو ما قرأه الإمام(ع) في مصحف فاطمة. إنتهى.
ونقول:
غاية ما هناك: أن الرواية قد أثبتت أن جبرائيل(ع) قد حدث فاطمة بما يكون في ذريتها، وليس فيها ما يدل على نفي وجود إخبارات غيبية أخرى فيه.
ومن الواضح: أن إثبات شئ لا ينفي ما عداه.
وليس في الرواية أيضا ما يدل على أنها في مقام نفي وجود علوم وأمور أخرى في المصحف، لكنها أرادت أن تنبه على شئ جعل فاطمة عليها السلام تهتم له، وتذكره لعلي، لكونه يتعلق بما سيجري على ذريتها.
ثالثا:هناك حديث حبيب الخثعمي، الذي يذكر: أن المنصور كتب إلى محمد بن خالد: أن يسأل أهل المدينة عن مسألة في الزكاة، ومنهم الإمام الصادق عليه السلام، فأجاب الإمام عليه السلام، عن السؤال، فقال له عبد الله بن الحسن: من أين أخذت هذا؟
قال: قرأت في كتاب أمك فاطمة(8).
وقد علق هذا البعض على هذا الحديث بقوله:
ظاهر هذا الحديث إن كتاب فاطمة ـ وهو مصحف
____________
8- البحار: ج 7 ص 227 باب: 7 حديث: 17.
فاطمة ـ يشتمل على الحلال والحرام.
ونقول:
أولا:إن هذا الحديث ضعيف السند.
ثانيا:إن التعبير ب: كتاب فاطمة قد ورد أيضا في رواية فضيل بن سكرة، عن الإمام الصادق (عليه السلام)(9) وليس بالضرورة أن يكون المقصود به مصحف فاطمة الذي هو موضع البحث، فضلا عن الجزم بذلك، ثم إرساله إرسال المسلمات، إذ قد كان لفاطمة عليها السلام كتب أخرى غير المصحف.
1 ـفقد روى الكليني في الكافي عن: علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إسحاق به عبد العزيز، عن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
جاءت فاطمة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بعض أمرها، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وآله كربة (10) وقال تعلمي ما فيها، وإذا فيها:
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليسكت (11).
____________
10- كرب النخل: أصول السعف، أمثال الكتف.
11- عوالم العلوم: ج 11 (الجزء الخاص بالزهراء(ع): ص 187 والكافي: ج 2 ص 667 ح 6 وراجع: ص 285 ج 1. والبحار: ج 43 ص 51 ح 52، والوسائل: ج 8 ص 487 ح 3 وفي الجنة الواقية: ص 508 قطعة منه.
2 ـوروى في دلائل الإمامة بسنده عن ابن مسعود، قال: جاء رجل إلى فاطمة عليها السلام.
فقال: يا ابنة رسول الله، هل ترك رسول الله عندك شيئا تطرفينيه؟
فقالت: يا جارية، هات تلك الحريرة، فطلبتها، فلم تجدها.
فقالت: ويحك اطلبيها، فإنها تعدل عندي حسنا وحسينا.
فطلبتها، فإذا هي قد قممتها في قمامتها، فإذا فيها:
قال محمد النبي (ص): ليس من المؤمنين، من لم يأمن جاره بوائقه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو يسكت.
إن الله يحب الخير الحليم المتعفف، ويبغض الفاحش الضنين السائل الملحف.
إن الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، وإن الفحش من البذاء، والبذاء في النار(12).
وهذه الرواية أيضا وسابقتها أيضا لا تدل على أنها(ع) هي التي كتبت وألفت. بل في الرواية الأولى دلالة على عكس ذلك، لأنها ذكرت: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطاها كربة مكتوبة
____________
12- دلائل الإمامة: ص 1 وعوالم العلوم: ج 11 ص 188 و 620 و 621. (الجزء الخاص بالزهراء(ع). وفي هامشه عن مسند فاطمة(ع): ص 113. وراجع مستدرك الوسائل: ج 18 وسفينة البحار: ج 1 ص 229 و 231 والمعجم الكبير للطبراني: ج 22 ص 413 مع اختلاف في اللفظ.
من عنده، وقال: تعلمي ما فيها.
3 ـوروى الصدوق بسنده إلى أبي نضرة، عن جابر، رواية مفادها: أنه دخل على فاطمة عليها السلام ليهنئها بمولودها الحسين (ع)، فإذا بيدها صحيفة(13)بيضاء، درة، فسألها عنها، فأخبرته: أن فيها أسماء الأئمة من ولدها، وأنها قد نهيت عن أن تمكن أحدا من أن يمسها إلا نبي، أو وصي، أو أهل بيت نبي، ولكنه مأذون أن ينظر إلى باطنها من ظاهرها، فنظر إليها، وقرأ.. ثم ذكر ما قرأه (14).
لا تعارض في أحاديث مصحف فاطمة(ع):
ثم إن هذا البعض قد ادعى:
إن الأحاديث حول مصحف فاطمة عليها السلام متعارضة..؟
لأن بعضها يذكر أنه من إملاء رسول الله وكتابة علي عليه السلام (15)، والبعض الآخر يذكر أنه كان ملك يأتيها بعد وفاة أبيها يحدثها، وكان علي عليه السلام يكتب ذلك، فكان مصحف فاطمة (16).
____________
13- عبرت بعض النصوص الواردة في المصادر التي في الهامش باللوح.
14- عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 40 و 44 و 46. والاختصاص ص 210 والأمالي للطوسي ج 1 ص 297 والخصال ج 2 ص 477 / 478 وكمال الدين ص 305. 313.
15- راجع: بصائر الدرجات: ص 153 و 155 و 161 والبحار: ج 46 ص 41 و 42 و 47 و 48 و 49 و 271.
16 الكافي: ج 1 ص 41 و 240 و 457 و 458. بصائر الدرجات: ص 157 و 153، 159 والخرائج والجرائح: ج 2 ص 526. وبحار الأنوار: ج 26 ص 41 و 240 و ج 43 ص 79 و 80 و ج 22 ص 545 و 546. وراجع: ج 47 = ص 65. وفي هامش الخرائج والجرائح عن مصادره كثيرة جدا، فليراجعها من أراد. وعوالم العلوم: القسم الخاص بالزهراء(ع) ج 11 ص 583 و 447 عن المحتضر: ص 132 وضياء العالمين مخطوط : ج 2 ق 3 ص 38 و 39.
ونقول في الجواب:
إن معنى التعارض في الروايات هو أن تكون الروايات متكاذبة في ظاهرها، تثبت هذه شيئا وتلك تنفيه، أو العكس، فإذا لم يمكن الجمع بينها، فلا بد من الطرح لهما، أو لإحداهما، إذا وجد مرجح للآخر..
والأحاديث التي تحدثت عن مصحف فاطمة ليست كذلك، حيث يمكن الجمع بينها، إذ قد يكون هذا الكتاب المصحف ـ سمي بذلك لأنه صحف مجتمع بعضها إلى بعض ـ قد كان قسم منه بإملاء رسول الله (ص) وكتابة علي(ع)، والقسم الآخر من إملاء الملك لفاطمة وكتابة علي(ع). وقد كتب بعد وفاة رسول الله (ص)، حيث كان ذلك الملك يأتيها فيسليها. وفي هذا المصحف وصية فاطمة(ع) أيضا، فراجع(17).
وخلاصة الأمر:
إنه قد يتعلق الغرض ببيان أن الرسول كان قد تصدى. لإملاء قسم مما في الكتاب، ليثبت بذلك أنه مقبول وممضى منه (ص)، إيذانا بصحة ما في المصحف، وبعظيم أهميته ومزيد شرفه.
أما الحديث الذي يتضمن:أن جبرائيل(ع) هو الذي كان يسلي فاطمة(ع)، فلا يعارض الحديث الذي يقول: إن ملكا كان يسليها ويحدثها.
____________
17- بصائر الدرجات: ص 157 و 158 والبحار: ج 26 ص 43 والكافي: ج 1 ص 241.
إذ قد يكون هذا الملك هو نفس جبرائيل(18)، على أن المجلسي قد وصف هذا الحديث بالصحيح (19) فراجع.
تصوير التعارض بنحو آخر:
وذكر البعض نحوا آخر للتعارض بين روايات مصحف فاطمة، فقال:
إن هناك روايتين تقولان: إنه بخط علي(ع) عما يحدثه الملك للزهراء(ع)، ولكن الروايات الأخرى لا تدل على ذلك، وهي المشتملة على الحلال والحرام، ووصية فاطمة، فلا بد من الترجيح بينها. إنتهى.
ونقول:
قد ذكرنا فيما سبق بعض ما يتعلق بكلامه هذا، ونزيد هنا: أن قوله الأخير: فلا بد من الترجيح بينهامعناه أنها أخبار متعارضة، ولا يمكن الأخذ بها كلها، فلا بد من طرح البعض منها، والأخذ بالبعض الآخر وفقا للمرجحات.
____________
18- البحار: ج 43 ص 79 و ج 26 ص 41، بصائر الدرجات: ص 153 والكافي: ج 1 ص 241. والخرائج والجرائح: ج 2 ص 526. وفي هامشه عن مصادر كثيرة جدا وضياء العالمين مخطوط : ج 2 ق 3 ص 38.
19- راجع: روضة المتقين ج 5 ص 342. ومرآة العقول: ج 3 ص 59. وجلاء العيون: ج 1 ص 183.
وهذا كلام غير مقبول:
أولا:لأن وجود روايتين تصرحان بأنه بخط علي(ع) لا يعني أن الرواية الأخرى الساكتة عن ذلك تنفي هذا الأمر، بل هي لم تتعرض له، لأنها بصدد بيان جهات أخرى، لم يكن معها داع أو ملزم لذكر الكاتب أو المملي.
وإذا كان هناك روايتان تصرحان بأن عليا عليه السلام هو كاتب المصحف، فهل هناك ولو رواية واحدة تصرح بأن فاطمة عليها السلام هي التي كتبته وألفته؟!
فلماذا الجزم بكون مصحف فاطمة إنما كتب بخط يدها، مع كونه مخالفا لما دل على كونه كتب بخط علي عليه السلام.
ثانيا:لم نعرف كيف تعارضت الروايات التي ذكر بعضها: أن كاتب المصحف هو علي(ع)، وذكر بعضها الآخر: أن هذا الذي كتبه علي(ع) في الحلال والحرام، ثم ذكرت روايات أخرى: أن في هذا المصحف وصية فاطمة!!
فهل عدم ذكر الطائفتين الأخيرتين لكون علي(ع) هو الكاتب يوجب أن تصبح هاتان الروايتان معارضتين لروايات كتابة علي(ع) للمصحف؟!. فأين التعارض؟ وأين التنافي؟!
ثالثا: إننا حين راجعنا الروايات وجدنا: أن رواية حماد بن عثمان قد ذكرت أن مصحف فاطمة ليس فيه شئ من الحلال والحرام، ثم راجعنا رواية الحسين بن أبي العلاء، فوجدنا أن الضمير في قوله: وفيه ما يحتاج الناس إلينا، لا يعود إلى مصحف فاطمة، بل يعود إلى الجفر. ونتيجة ذلك كون الحلال والحرام في الجفر لا في
المصحف، وراجعنا رواية الخثعمي، فوجدناها تتحدث عن كتاب فاطمة، لا عن مصحف فاطمة.
وقد تقدم إنه قد كان لها عليها السلام مكتوبات أخرى غير المصحف.
وإن ما ذكرناه حول اختلاف الأغراض من ذكر الخصوصيات يشبه في بعض وجوهه نقل وقائع ما جرى على الزهراء عليها السلام، فنجد أن بعضهم ينقل التهديد بالاحراق..
وبعض آخر ينقل:جمع الحطب..
وثالث ينقل:الاتيان بقبس من نار..
ورابع ينقل:إحراق الباب، واشتعال النيران..
وخامس ينقل:كسر الباب، ودخول البيت..
وسادس ينقل:عصر الزهراء، بين الباب والحائط، وإسقاط الجنين..
وسابع ينقل:لطمها على خدها، أو ضربها على يديها، أو جنبها، أو متنها، أو عضدها، حتى صار كالدملج..
وثامن ينقل:كسر ضلعها..
وتاسع ينقل:أن عمر قد ضربها..
وعاشر ينقل:ضرب المغيرة أيضا لها..
وحادي عشر ينقل:ضرب قنفذ لها بأمر من عمر..
وثاني عشر ينقل:ضرب خالد بن الوليد لها.
ولا تكاذب بين هذه الروايات، بل إن كل واحد ينقل شطرا مما جرى، إما لتعلق غرضه به، أو لأنه هو الذي ثبت لديه، أو مراعاة لظرف سياسي، أو غيره، ولا غرابة في ذلك.
على أن الاختلاف في جزئيات النقل لا يضر بأصل ثبوت الحادث، بل هو يؤكده، إذا كان الكثيرون لا يتحققون من الجزئيات، فضرب فاطمة ثابت، واختلاف الرواة إنما هو في شخصية الضارب مع احتمال أن يكون الجميع قد اشتركوا في هذا الأمر الفظيع والشنيع واختلطت الأمور في زحمة المعركة وهيجانها.
وهكذا الحال بالنسبة لمصحف فاطمة صلوات الله وسلامه عليها..
مع فارق واحد، هو أن السبب في التنوع في نقل ما جرى عليها هو في الأكثر الميول السياسية، والمذهبية أو غيرها.. أما بالنسبة لمصحف فاطمة، فالسبب فيه هو القصد إلى بيان حيثية ترتبط بمقام الزهراء(ع)، أو بأهمية المصحف المنسوب إليها، وصحة ما فيه، أو ما هو قريب من هذا وذاك..
ولكننا لم نستطع:أن نقف على دوافع الإصرار على تضمين مصحف فاطمة للأحكام الشرعية، كما لم نوفق لفهم أسباب ومبررات كثير من الأمور التي ذكرت في هذا المجال وفي مجالات أخرى كثيرة ومتنوعة.